تابعت حلقة الدكتور محمد العمري مع خالد عون في بودكاست ذا قال على قناة ثمانية، الحلقة بشكل عام جميلة جدًا وممتعة، وتحوي شعر وقصص ومعلومات وسوالف، وبالتأكيد -مع أني أقترح الاستمتاع بمشاهدتهاـ إلا أن الخلاف موجود، وخاصة في "التطبيل"، ولكن ما لفت نظري واستوقفني هو النوع المختلف من التطبيل، وإن كنت مريت به سابقًا بشكل خفيف لدى بعض العامة، إلا أنه لأول مرة أراه بهذا الوضوح ومن شخص مثقف، تطبيل مختلف تمامًا عن التطبيل السائد والمعروف.
والتطبيل -لمن لا يعرفه- كلمة دارجة تستخدم بديلًا عن الكلمات الأصلية التي تعد أكثر قسوة، مثل التزلف والمداهنة والنفاق، وهو المدح المبالغ فيه لصاحب نفوذ من أجل الحصول على مصلحة، وتُستبدل -تأدبًا وتلطفًا- بكلمة "تطبيل".
وللمطبلين مناهج عدة وطرق كثيرة، بعضهم تمرس فيها وأتقنها واستطاع أن ينال الحظوة والمال والجاه والقرب من المُطبل له، وبعضهم -وهذا كثير لدينا وسأضرب أمثلة- فشل في ذلك لأسباب متعددة، لعل أبرزها تزاحم ساحات التطبيل وتطبيعه، ومنها عدم اتقانه واحترافه، كما هو مثالنا اليوم.
وبعض التطبيل يرفضه حتى المُطبل له لفجاجته، ولتحوله لشحاذة وتسول ممجوج، أو عبادة صريحة، أو خلق عداوات وفتح جبهات للمُطبل له هو غير مستعد لها، فيبالغ المُطبل مبالغة قد تأخذه للسجن، وبعد أن يُسجن المطبل الذي كان قد صدع رؤوسنا بعبادة سيده نجد أنفسنا نطالب بالإفراج عنه، ومن واجبنا أن نرفق بهم وأن نعذر جهلهم وفاقتهم وننصحهم أو ننقدهم ولا نرضى بسجنهم، والأمثلة كثيرة لن أذكرها حرصًا على عدم الإساءة لمن ابتدأوا الإساءة.
وهناك تطبيل بدراية ومكر، وربما نسميه التطبيل الاحترافي البراغماتي، ويحترف هذا في بلادنا عدد من الصحفيين والدعاة والإعلاميين ويتمرسون في ذلك ويحصلون به على مرادهم، ويؤدونه كعمل له قواعد ونظام -ليس مثل العمري- وتجدهم ينقلون كفالة رقابهم من سيد لسيد وفق المصلحة ووفق ما تقتضيه شروط التطبيل، وقاعدتهم "من تزوج أمي أقول له يا عمي"، وبالأمس يطبلون لعبدالعزيز بن فهد واليوم لا يرونه شيئًا مذكورا، وربما لو رأوه لما ردوا عليه السلام، وتراهم يلمزون ابن نايف في كتاباتهم وكذلك من فقعوا آذانًا تطبيلا له ولا تكاد تسمع ولا تقرأ إلا "أبو متعب فعل وأبو متعب قال"، ثم قلبوا جلودهم وكأنهم خرجوا من "المشهد" بد صلاة الاستسقاء لدى معبود جديد.
أما التطبيل الأكثر انتشارًا ورواجًا في بلادنا، وهو فاشل بطبيعة الحال، فهو "التطبيل الاستصلاحي"، ودائمًا ما يُقال "قلت أو فعلت من أجل إحراجهم وتغييرهم للأفضل"، وهذا المطبل يستخف بالمُطبل له، أو يستخف بنفسه، أو يستخف بالناس، ولعل من أصدق الأمثلة على ذلك الراحل جمال خاشقجي رحمه الله، كان يقول أنا أمدح حتى أدفعهم لفعل الخير، ولإنصافه رحمه الله فإنني أظن وبشدة بأنه بالفعل كان يريد الخير، وأن مدحه للنظام والحاكم والمسؤول كان بحسن نية، ونظن به خير وإن كان هذا لا يبرر الفعل ولا ينفي اختلافنا مع الفكرة. وهذه الفكرة أكثر رواجًا في صفوف الإسلاميين، فيرددون بعد نقدهم لأي أمر ينتقدونه "وهذا الأمر لا يرضى به حكامنا ولا يقبلونه، ولكنهم البطانة"، وللأسف فقد زج بهم حكامهم في السجون مع البطانة، والله المستعان. وأذكر هنا أحدهم استقبل سلطان ابن عبد العزيز في أبها وقال فيه قصيدة تسمع الطبلة فيها قبل وصول القافية، فسألته "لماذا كل هذا يا دكتور"؟ وقد كان رئيس قسم في الجامعة، فرد "حتى لا يعزلونني من منصبي ويأتون بشخص سيء"، فرديت "لا يوجد أسوأ مما قلت وفعلت"، فغضب يومها وكان له موقف طريف بعد خروجي عله يفسر بعض القصة.
سأذكر قصة الدكتور غفر الله له مع عمي مغرم رحمه الله قبل أن أعود للتطبيل، فبعد خروجي الأخير من البلاد طلب مني عمي مغرم رحمه الله الاتصال، فاتصلت به وسأنقل بعض الحوار باختصار، بلهجته وحكمته وذكائه ولباقته غفر الله له ورحمه، قال "أنت بعدًا[1] تصرح[2]"، فرديت بأسلوب مازح مثل عبارته "فمن أخلي قسمي له[3]"، فقال "إذا ودك تتعوذ من أبليس وتشوف لومك حليمة[4] ولأهلك، ولو[5] عمتك شاهرة تنشد منك كلما زرتها، وكلنا والله فقدناك، فمال[6] نفسك واعلمني، أرق[7] ابن فلان جاني ويقول علمه اش في خاطرك وهو يتولى الموضوع، وما نشدته هو سواها من عنده أو أنه مرسول، لم أنشده ريثاك[8] أشوف اش في خاطرك"[9]، فرديت بالرفض وحاولت أرضيه رحمه الله، الشاهد هنا أن الدكتور الذي بدأ بالتطبيل بحجة "لا يجيبون أحد سيء في المنصب"، هو نفسه "ابن فلان" المذكور في مكالمة عمي والذي كان يسعى في هذا الأمر، وهذا يذكرني بمقولة في الديرة "من نونى طرق"، أي من بدأ بالنوننة، وهي الترانيم، فبعدها سيأتي بطاروق، وربما بعدها يلعب أو يرقص.
وأما غيره ممن كانوا في نفس النهج فللأسف انتهى المطاف ببعضهم بأن "طرقوا"، أو انتقلوا إلى مرحلة مختلفة من التطبيل، فانتقلوا من التطبيل الاستصلاحي إلى التطبيل الاحترافي البراغماتي، حتى أنه يُروى عن أحدهم أنه قال عن قصيدة تطبيلية كتبها بأنها تأمين سنوي ضد السجن، ويقول ساخرًا من الحال ومن نفسه كلما "نبشوا في القديم" أعميتهم بالجديد و"صكيتهم" بقصيدة. أما الغالبية فمع شديد الأسف أنهم في السجون اليوم، لأن كل آليات وطرق الاستصلاح مرفوضة، والاختلاف مرفوض، ولا مكان للوم بطانة أو غيرهم، وأصبحوا في ذات العنابر مع الإصلاحيين البارزين الصريحين، ومع البطانة الذين كانوا شماعة يُعلقون عليها، وكما قال سجين أعد مناسبة للسجناء وقال "تفضلوا قام حظكم ولعن الله من جمعكم[10]". ونسأل الله الفرج للجميع.
أما التطبيل الجديد الذي أثارني به الدكتور العمري ودعاني لكتابة هذا، فهو التطبيل بضمير، شعرت في العمري صدق وضمير وهو يطبل، وأظن لو أنه أمامي وسألته عن سبب فعله فسيقول كلامًا لا معنى له قال بعضه في الحلقة، مثال "حكامنا، قادتنا، سادتنا، كبراؤنا"، ولو سألته عن بعض سوء صنيعهم فسيقول "هذا هو الحكم، الكل كذا، أعطني حاكم لم يظلم أو يغلط"، وأظنه سيستعين بعشرات المغالطات المنطقية لكي يبرر فعله، لا أظن به سوءا، بل أظن أن هذا ما تم تطبيعه، ومن الصعب تغيير ما اعتاد عليه الناس إذا كان الثمن باهض جدا، فقد يُفضل المثقف أن يتنازل عن بعض ثقافته ومعرفته ليحمي نفسه من علم قد يغير موقفه، وموقف قد يغير حاله، فهذا علم قد يجعل صاحبه في مأزق، فالمعرفة هنا تتطلب موقف، والموقف ثمنه باهض جدا.
لفت نظري أن الدكتور ينتهج نهجًا فيه تعميم شعبوي مريح ولكنه مسيء، مثل "حكامنا كلهم طيبين"، ويمدحهم جميعًا، الراحل والباقي، صاحب السلطة والمنبوذ اليوم، وهذا مختلف تمامًا عن تطبيل المحترفين البراغماتيين المخادعين، الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويمدحون المتنفذ فقط ويلمزون من نبذه، العمري قام "بتحديد الكل"، وهذا نهج طبقه في كثير من القضايا، ليس في التطبيل فقط، بل أيضًا عندما يقول "الشيبان يعرفون"، طبعًا واضح أن التعميم خاطئ، قد يكون لدينا حنين للماضي يدفعنا لحب ذلك الجيل، قد يكون احترام الكبير، قد يكون كثير جدًا من شيبان ذلك الجيل "يعرفون"، لكن العبارة "تحديد الكل"، مثلها قوله "اليمن والله انهم ونعم"، ونعمين ولكن هذا التحديد للجميع ربما يوضح طريقة لدى العمري وهي "كلهم ونعم"، سواء كان الحديث عن الحكام أو الشيبان أو القبائل، وهذا طبعًا يعطل الفكر الناقد. وهذا الأمر يتكرر كثيرًا لدى الشعراء، لإنهم -ربما- اعتادوا في شعرهم على المجاز والصور البلاغية والمبالغات أيضًا، ونقل هذا لحديث تحليلي لا يصح، إلا إذا اعتبرنا أن الشعراء "في كل وادٍ يهيمون" سواء كتبوا شعرًا أو نثرًا أو حتى لو كان حديث علمي، فهذا قد يضرهم، العمري ليس وحده هنا، فيمكن أخذ مثال آخر لشعراء آخرين كنت أستمع لهم قبل مدة في برنامج آخر، برنامج لطيف خفيف أرجو أن يكملوه، وكحلقة العمري جميلة ولكن لابد لنا أن نتحفظ، البرنامج اسمه أسمار، يقدمه الشعراء عبدالله العنزي و حسني مالك و فيصل الشهراني و حمود الصاهود، وهو برنامج أدبي مختلف عن البرنامج الثقافي الفكري أسمار وأفكار الذي يستضيفه الدكتور محمد بن حامد الأحمري في قطر. ففي أسمار كان ذكر الصاهود وشاركه رفاقه بأن العربي لا يقبل الضيم، وأن العربي لا يغش، وأن العربي لا يكذب، وكأن العربي كائن لا نعرفه منفصل عنا تمامًا، ففخر القصيدة المبرر وتعميمها ينقله الشعراء للحوار الثقافي فتظهر لنا معلومات كلكم يعرف عدم دقتها، بعيدًا عن الشعبوية المفرطة، النص الثقافي يجب ضبطه، والعربي كائن نعرفه، ومثله الحاكم خطأه خطأ يجب أن يُنقد، لا كما يقول الدكتور العمري كبارنا وقادتنا وشيباننا.
وقد يظن البعض أن عدم احتراف العمري للتطبيل، وقلة ميكافيليته، وجديته في التطبيل والتطبيل بضمير ومن قلب، ومدحه لصاحب النفوذ، ولمن فقد النفوذ، كلهم على حد سواء، قد يظن البعض أن هذا هو سبب عدم حصول العمري على دعم حتى في مشروع رائد، مثل مشروع لسان مبين، قد يظن البعض هذا، ولكنني أظن السبب هو الاكتظاظ الكبير في ساحات التطبيل حتى أن إزعاج التطبيل وصخبه يصم آذان حتى المُطبل لهم، فليس مشروعه وحده الذي يواجه صعوبات، فهذا مشروع في المجاردة، تهامة بني شهر، مشروع سياحي لمحمد الغاوي، له ابن غاية في التطبيل، ولديه تطبيل احترافي براغماتي يخترق كل الخطوط الحمراء، الابن يتهم ويفبرك ويزور ويقول الزور ويستخدم عبارات هابطة ويقدح في الأعراض ولم يبقي شيئًا لم يفعله، ويركز تطبيله لصاحب النفوذ فقط ومستعد للعنه ساعة فقده لنفوذه، ومع هذا لم يحصل الدعم. وهذا الابن كان في بداياته مشروع "ولد مؤدب"، وفي يوم قال أحدهم عنه "تراه ولد رجال وما بيفوت"، فقلت أن هذه قاعدة فيها خلل، والدليل على خلل القاعدة أنه فات وانفلت، فلا مصلحة نال ولا سمعة أبقى، وبهذا المثال استدل بأن "الزحمة" هي سبب عدم وصول المطبل وليست الطريقة.
ختامًا، التطبيل كله مرفوض، سواء كان بوعي أو بغير وعي، بحسن نية أو بسوء نية، لا يجوز مدح أحد بما ليس فيه، ولا يجوز الوقوف مع ظالم ولا التبرير للظلم، وقوله تعالى " وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا" أي لا تكن مخاصمًا عنهم مدافعًا عنهم، وإلا فستكون شريكًا لهم، كل شخص لا يجد قوت يومه، أو يعاني في رزقه، أو لا يستطيع أن يجد له عمل، أو لا يستطيع أن يصرف على أسرته، أو لا يلقى علاج، أو يظلم بأي شكل من الأشكال، فإن حقه أن ننصره، وأن ندافع عنه، وهذا كرم الأخلاق أن ندافع عن المظلوم، عن الضعيف، لا عن القوي وصاحب السلطة، الدفاع عن القوي قد يُكسب الشخص وجاهة ومناصب ومال وسلامة، ولكن الدفاع عن المظلوم هو الصح وكفى، هو ما أمر الله به، وعليه عاداتنا وتقاليدنا، وهذه هي النخوة والشهامة، وهذا هو العدل، ونفعله لأن صحيح كما قال كانط بغض النظر عن كل الدوافع الأخرى لحفظ الأخلاق. هدانا الله جميعا للحق والعدل والخير وعفى عنا جميعا، والسلام
[1] لا زلت
[2] مازحًا وفي إشارة إلى العبارة المتداولة "صرح مصدر مسؤول"
[3] قسمي في "التصريح" أو قسمي في التعبير عن رأيي
[4] أمي رحمها الله اعتدنا أن نسميها "أمي حليمة" وخاصة قبل وفاة جدتي أم أبي رحمها الله التي كنا نسميها "أمي حفظية"، فكنا نحتاج إلى ذكر الاسم حتى نميز عن أي أم نتحدث، ثم اعتدنا على ذلك.
[5] حتى
[6] شاور
[7] شوف، انظر
[8] في انتظارك
[9] خلال الفترة الماضية رحلت عمتي شاهرة وأمي حليمة وعمي مغرم رحممهم الله جميعًا، وكتبت عنهم وحذفت، بسبب عادة لدي لا أحبها، مراجعة وحذف، وأبقيت بعض التغريدات المنشورة
[10] ذكر القصة لا يعني الموافقة على اللعن